من أمريكا أولا إلى سقوط أمريكا

عندما أعيد انتخاب ترامب العام الماضي، ظلت وسائل الإعلام الأجنبية تسألنا نحن الصينيين عن رأينا في ترامب. قلتُ إن معظم الصينيين يعتقدون على الأرجح أن ترامب أفضل بقليل من بايدن. نجد بايدن منافقًا للغاية، بينما ترامب أكثر صراحةً نسبيًا. تقييمي الشخصي لترامب كان متسقًا: لديه قراءة دقيقة إلى حد ما للعديد من مشاكل أمريكا، لكن الحلول التي يقدمها غالبًا ما تكون خاطئة – خاطئة بشكل كارثي.

على سبيل المثال، يدرك ترامب أن الولايات المتحدة قد تجاوزت حدود قوتها الوطنية منذ زمن طويل. وأنها في طريقها إلى الفشل. ويقرّ ترامب بأن العالم أصبح متعدد الأقطاب، وأن الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على إدارة العالم بأسره. ويرى ترامب أن أوكرانيا لا تملك أي فرصة للفوز، فيقرر التوقف عن إهدار المال الأمريكي، ساعيًا بدلاً من ذلك إلى تسوية مع روسيا. وقد فكّك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، المقر العالمي للثورات الملونة، التي جلبت معاناة هائلة للعديد من الدول، وتسببت أيضًا في خسائر فادحة للولايات المتحدة نفسها.

ومع ذلك، بصفته زعيمًا لقوة عظمى، فإن رؤية ترامب وشخصيته وخبرته ومعرفته لا تكفي لتحقيق أجندته “جعل أمريكا عظيمة مجددًا”. إن السمة الأبرز لترامب هي عدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته. ففي نهاية المطاف، شارك في تأليف كتاب “فن إبرام الصفقات”. وتكتيكه التجاري المفضل هو الاستمرار في تغيير المواقف، ومباغتة الخصوم، وممارسة أقصى قدر من الضغط. ثم إبرام صفقة بأفضل الشروط بالنسبة له.

دونالد ترامب المتلاعب*

وهكذا، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية متزايدة على جميع السلع الصينية، مقتنعًا بحاجة الصين إليه. وتوقع اتصالا هاتفيا من القيادة الصينية. لكن ما تلقاه بدلًا من ذلك لم يكن اتصالًا من بكين، بل تدابير مضادة أشد صرامة. شملت فرض رسوم جمركية مماثلة تصل إلى 125% على جميع الواردات الأمريكية. وإضافة قائمة طويلة من الكيانات الأمريكية إلى قوائم مراقبة الصادرات، وقيودًا صارمة على تصدير المواد الأرضية النادرة والسلع ذات الصلة.

علّق توماس فريدمان، كاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز، قائلاً: “يرسل ترامب رسالةً للعالم وللصينيين مفادها: ‘لم أستطع تحمّل الضغط’. لو كان كتابًا لسمي “فن الصراخ”. في الواقع، أدّت سياساته الجمركية المتهورة إلى عمليات بيع واسعة النطاق لسندات الخزانة الأمريكية. وهو ما قد يؤدي إلى انهيار النظام المالي الأمريكي. يشتبه الكثيرون أيضا في أن تذبذب ترامب هو وسيلة للتلاعب بسوق الأسهم -.رفع الرسوم الجمركية، ثم تعليقها، والبيع على المكشوف، ثم إعادة الشراء. – محوّلًا وول ستريت إلى كازينو لعائلته. فهو ليس مجرد قطب عقارات، بل هو أيضًا مالك كازينو سابق. وهذا يشير بوضوح إلى الفساد المؤسسي في أمريكا.

لقد أفقدت التقلبات السياسية المستمرة ترامب مصداقيته. فالشركات والمستهلكون الأمريكيون في حيرة من أمرهم، ويبدو أن الركود الاقتصادي المصحوب بارتفاع التضخم أمرٌ لا مفر منه. يدرك كل صيني حكمة مقولة الفيلسوف الصيني لاو تزو التي تعود إلى أكثر من ألفي عام، والتي تقول: “حكم أمة عظيمة كطهي طبق فاخر – فالنهج الحصيف والمتسق هو الأساس”. لكن ترامب لا يفهمها. لطالما كان التذبذب في المواقف خطيئة جسيمة في ثقافة إدارة الدولة الصينية؛ فنهج ترامب لا يفشل في ترسيخ أي سلطة فحسب، بل يدمر الثقة أيضًا.

دونالد ترامب يحيي أمريكا الإمبريالية*

في ظل قيادة ترامب، لم تعد الولايات المتحدة تتصرف كقوة عظمى محترمة. فقد أحيا ترامب تقاليد أمريكا الإمبريالية، مستهدفًا أولًا حلفاء خاضعين مثل كندا والدنمارك، ثم ابتز أوكرانيا مقابل 500 مليار دولار من حقوق التعدين. وهذا لا يظهر فقط أن حلفاء أمريكا فريسة سهلة لتهديداته، بل يظهر أيضا أن الولايات المتحدة فقدت كل سلطتها الأخلاقية عالميًا، مما زاد من عزلتها.

كتب الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، مؤخرًا في صحيفة Handelsblatt أن كلمة أمريكا أصبحت بلا قيمة على الساحة العالمية. وأشار إلى أن الولايات المتحدة تمثل أقل من 20% من الاقتصاد العالمي، بينما الـ 80% المتبقية – التي تمثلها معظم الدول الأخرى – قد اتحدت ضدها.

عندما اندلعت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين عام 2018، ألقيتُ خطابًا في جامعة هارفارد. قلتُ إن القيادة الصينية تتطلع إلى عام 2050، بينما لا تزال رؤية ترامب عالقة في عام 1950. والآن، ومع حملته الأخيرة على الرسوم الجمركية، يبدو أنه عازم على إعادة الولايات المتحدة إلى مذهب التجارة السائد في القرن التاسع عشر. إن حساباته للرسوم الجمركية، وإيمانه الأعمى بالحمائية، واعتقاده بأن الرسوم الجمركية المرتفعة قادرة على إعادة التصنيع إلى أمريكا، تكشف عن جهله وقصر نظره.

قبل فترة وجيزة، أجرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلة معي. أخبرتهم أن حرب الرسوم الجمركية، التي بدأتها الولايات المتحدة، ستؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية. تظهر أبحاثنا أن أكثر من 90% من الرسوم الجمركية المتزايدة تحملتها الشركات والمستهلكون الأمريكيون. ولن تكون النتيجة هذه المرة مختلفة.

في مقابلة أخرى مع وكالة الأنباء الروسية تاس، أخبرتهم أنه عندما هدد ترامب العام الماضي برفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية إلى 60%، قلت حينها: “أرجوكم أخبروا الرئيس ترامب أنه يستطيع رفعها إلى 600%، فهذا لن يحدث فرقًا”. تظهر أبحاثنا أن اعتماد أمريكا الاقتصادي على الصين يفوق بكثير اعتماد الصين على الولايات المتحدة. معظم الصادرات الصينية إلى أمريكا سلع أساسية لا تملك الولايات المتحدة بدائل سهلة لها.

ترامب يقلد غورباتشوف*

أما بالنسبة لرغبة ترامب في إعادة شركات مثل آبل ومايكروسوفت إلى الولايات المتحدة، فسلاسل توريدها متأصلة بعمق في الصين. ضمن دائرة نصف قطرها 150 كيلومترًا، يمكنها الحصول على كل ما تحتاجه من مكونات. استغرق بناء هذا النظام البيئي عقودًا من الزمن في الصين. الولايات المتحدة تتجه نحو التراجع الصناعي منذ 30-40 عامًا، فكيف يمكنها تقليدنا؟

مؤخرًا، قارنت صحفٌ مثل نيويورك تايمز وتايمز اللندنية ترامب بغورباتشوف. وكما سرّعت سياسة غورباتشوف “العلاج بالصدمة” الجذرية انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن سياسات ترامب المتهورة قد تدفع أمريكا إلى نفس المسار.

كتب الكاتب المحافظ جوناثان فيكتور لاست مقالاً بعنوان “انتهى عصر أمريكا”، زعم فيه أن الإمبراطورية الأمريكية تنتحر، وأن حرب التعريفات الجمركية التي شنها ترامب ليست سوى الخطوة الأخيرة التي دمرت الاقتصاد الأمريكي، ووجهت ضربة قاتلة لحلف شمال الأطلسي، وتفكيك النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة في ظرف 71 يومًا فقط.

انهار الاتحاد السوفيتي جزئيًا بسبب الخراب المالي. الولايات المتحدة الآن في مأزق مماثل – 37 تريليون دولار من الديون، مع مدفوعات فوائد سنوية تتجاوز تريليون دولار. أمريكا مفلسة بالفعل، وتعيش فقط على ما تبقى من مصداقية أسطورتها المالية، مما يجعل الكثيرين يعتقدون أن سندات الخزانة الأمريكية أصول خالية من المخاطر. لكن فوضى ترامب الجمركية كشفت عن هشاشة النظام المالي الأمريكي، بما في ذلك سندات الخزانة، مما تسبب في انهيار متزامن نادر في الأسهم والسندات والدولار.

تشكّل عمليات البيع المكثفة لسندات الخزانة الأمريكية القضية الجوهرية. تتضاءل قدرة أمريكا على اقتراض ديون جديدة لسداد الديون القديمة، وتلوح في الأفق أزمة مالية. في عام 1999، تنبأ الباحث النرويجي الراحل يوهان غالتونغ،  بانهيار الإمبراطورية الأمريكية حوالي عام 2020، و الذي كان قد تنبأ بدقة بانهيار الاتحاد السوفياتي. وقد طرح مفهوم “السحر” الذي يتجلى في أن الإمبراطوريات تحكم من خلال وهم التفوق، سواء كان ذلك أسطورة “المدينة المضيئة على تلة”، أو قدسية المؤسسات الأمريكية، أو الاعتقاد بأن الدولار وسندات الخزانة لا تقهر. بمجرد أن يتلاشى هذا “السحر”، تسقط الإمبراطورية.

ترامب يجعل الصين عظيمة*

في الخامس من أبريل [2025]، نشرت مجلة الإيكونوميست مقالاً رئيسياً بعنوان “كيف يمكن لأمريكا أن تجعل الصين عظيمة مجدداً؟”. وزعم المقال أنه بينما يبني ترامب الجدران، تعيد الصين تشكيل العلاقات التجارية العالمية، ويحظى نموذجها التنموي بقبول واسع النطاق بين الدول النامية. سبق أن قلتُ في عام 2018 بأن الولايات المتحدة ستخسر حربها التكنولوجية ضد الصين، وعلينا أن نتذكر منح الرئيس ترامب ميدالية خاصة لمساهماته الاستثنائية في نجاح الصين.

المفارقة أن ترامب لم يكن ينوي قط مساعدة الصين، بل كان يحلم باحتوائها. لكن أفعاله المتهورة لم تسهم إلا في تسريع صعود الصين. والسبب بسيط: فمسار الصين، كما يقول المثل الصيني، هو الطريق المستقيم للعالم، وسيكون للمصلحين أنصار كثيرون، بينما سيكون للمنافقين أنصار قليلون. النموذج الصيني يكتسب زخمًا، بينما يتداعى النموذج الأمريكي.

أعتقد أن حرب الرسوم الجمركية هذه، التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين، إلى جانب ردود الفعل الصينية الحازمة والدقيقة والقوية، ستُظهر للعالم أي دولة هي حقًا أكبر وأقوى اقتصاديا. ليس فقط الأكبر، بل الأقوى أيضًا. الإجابة هي الصين، وليست الولايات المتحدة. لقد تغير العالم كليا، قارنوا فقط رسوم ترامب الجمركية الفظّة والفوضوية بإجراءات الصين المضادة الثابتة والدقيقة والحادة والمبتكرة.

دعوني أشرح بإيجاز معنى “الابتكار” هنا. نحن نستخدم نهجًا اقتصاديًا ذكيًا قائمًا على سلسلة صناعية متكاملة، مناسبا للقرن الحادي والعشرين، لتفكيك الحواجز الجمركية الأمريكية التي تعود إلى القرن التاسع عشر – بمعنى آخر، ضربة من بعد أسمى. كما نعمل على تطوير معايير تكنولوجية جديدة لمواكبة قواعد التجارة العالمية لتغيرات العصر.

بالمناسبة، يطلق الصينيون على ترامب ألقابًا مختلفة، مثل تشوانبو أو ترامب المُغيّر للوجه، ودونغ وانغ أو الملك العارف بكل شيء، وترامب باني الأمة. هذه الألقاب ليست فكاهية فحسب، بل تعكس أيضًا فطنة وذكاء ودهاء الناس العاديين في دولة حضارية كالصين. ألا يرعب هذا منافسينا؟

تشانغ وي وي: يشتغل أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فودان في الصين، و هو صاحب فكرة الدولة الحضارية التي وضعها في كتابه ” الزلزال الصيني: نهضة دولة متحضرة”.

ترجمة: منير علام

* العناوين الفرعية من اقتراحي.

Loading

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  • Rating