خصصت الأمم المتحدة يوم السابع عشر من أكتوبر من كل سنة للقضاء على الفقر. وبدأ العمل بهذا اليوم منذ سنة 1992. وفي تعريفها لهذا الوضع الإنساني، قالت الأمم المتحدة أن “الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث إن مظاهره تشمل الجوع وسوء التغذية وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة إلى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات”.
وحسب الأمم المتحدة، يبلغ عدد الفقراء في العالم حوالي 808 مليون نسمة، يوجد أغلبهم في الدول النامية، ويعيشون بأقل من دولارين في اليوم، وهو المعدل الذي حدده البنك الدولي سنة 2022. فالكل يعلم أن هذا المقدار لا يمكن أن يكفي لسد حاجيات الإنسان البسيطة جدا، فكيف له أن يمنح المواطن حياة كريمة. ومن هنا تبدأ حكاية صناعة الفقر من طرف المؤسسات الدولية الكبرى. وعلى رأسها الأمم المتحدة التي توحي للعالم بأنها تحارب الفقر لكنها في حقيقة الأمر تعممه.
وقد تعمقت درجة الفقر منذ خمسينيات القرن الماضي، بعد أن تم إحداث البنك الدولي الذي اتخذ العديد من الإجراءات التي سوف نتعرف على بعضها من خلال فقرات هذا المقال.
الإصلاح الاقتصادي
كان ربط الدولار بالذهب أولى خطوات الإصلاح الاقتصادي التي باشرها البنك الدولي. وهذه العملية جعلت جميع عملات العالم مرتبطة بالدولار، وهو ما عرف بدولرة الأسعار. حيث تصبح الأسعار المحلية في البلدان النامية في المستوى الدولي، لكن الأجور لا ترتفع لنفس مستوى الأسعار.
وعندما ارتبط الاقتصاد العالمي بالدولار، خاصة وأن الدول النامية لم تكن لها القدرة على مسايرة التطور الاقتصادي الأمريكي، لأن تلك الدول كانت قد خرجت لتوها من غياهب الاستعمار وتحمل تركة ثقيلة من التخلف، جعل هذا الارتباط الدول في حاجة للتنمية. ولا يمكن فعل ذلك لأن خزينتها لا تسمح بذلك، فلجأت للاقتراض لتحقيق ما تريد. وهنا بدأت فصول قصة جديدة من الفقر.
القروض والفقر
عندما تم إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين، كان عالم النصف الثاني من القرن العشرين قيد التشكل. لأن مرحلة الحرب الباردة فرضت واقعا سياسيا جديدا تجلى في ضرورة خلق حلفاء وأتباع في آن واحد. وكانت للولايات المتحدة الأمريكية سلطة قوية على المؤسسات المالية الكبرى، ومن ضمنها طبعا البنك الدولي الذي شارك في جريمة نكراء – مع سبق الإصرار والترصد- مع الدول الاستعمارية. إذ قدم البنك قروضا كبرى للدول الأوربية المستعمِرة قصد تعميق استغلال موارد الدول المستعمَرة. و في خطوة موالية اتفق البنك مع الدول الأوربية على نقل ديونها إلى الدول المستعمَرة. وعندما حصلت هذه الأخيرة على استقلالها وجدت نفسها مجبرة على دفع تلك الديون، لكن ليس للبلد المستعمِر بل للبنك الدولي.
وكان البنك يسعى من خلال تلك الخطوة إلى إحكام قبضته على دول العالم الثالث، وخير نموذج على ذلك، موريتانيا إذ
" في 17 مارس 1960 قدمت فرنسا ضمانة لقرض قدره 66 مليون دولار تعاقدت عليه الشركة مجهولة الاسم لمعادن حديد موريتانيا (ميفرما). كانت موريتانيا تعيش أشهرها الأخيرة كمستعمَرة، إذ تم إعلان الاستقلال في 28 نونبر من نفس العام، وكان من المقرر تسديد هذا القرض بين عامي 1966 و1975، ووفقا للتقرير السنوي للبنك الدولي، بعد ست سنوات كان لدى موريتانيا المستقلة ديون للبنك قدرها 66 مليون دولار"¹.
ولم يكن من بد أمام الدول المستقلة حديثا إلا الاقتراض لإصلاح ما أفسده المستعمر ولتسديد ديون لم تكن مسؤولة عنها.
عندما بلغ حجم ديون الدول النامية مستويات قياسية ولم تصل لما كانت تريد، تدخل البنك الدولي في سياسات تلك الدول من خلال استراتيجية “التقويم الهيكلي” التي ابتدأ العمل بها أواخر السبعينيات. و قد كانت تلك البرامج شرطا من شروط البنك الدولي لإعادة التفاوض حول الديون الخارجية للدول النامية. و قد كانت لهذا الشرط آثار كارثية على الشعوب التي زادت درجة فقرها. وبذلك “أسهم برنامج التكييف الهيكلي، إلى حد كبير، في زعزعة العملات الوطنية و تدمير اقتصادات البلدان النامية”².
آثار التقويم الهيكلي
والتفاوض بشأن الديون وعملية التكييف أو التقويم الهيكلي جعل الدول النامية تفقد الكثير من استقلالها الاقتصادي، لأن
"برنامج التكييف الهيكلي وما ارتبط به من تحرير للنظام المالي مكن المافيات الإجرامية [من توسيع] دورها في المجالات المصرفية الدولية. وأصبحت الحكومات الوطنية في العديد من البلدان النامية تحت وصاية مثل هذه الكتل الإجرامية، كما اكتسبت هذه الأخيرة قدرا كبيرا من ممتلكات الدولة في ظل برامج الخصخصة التي يدعو لها البنك الدولي"³.
وكان القطاع الزراعي من ضمن المجالات التي وضع البنك الدولي يده عليها. حيث تدخل في طرق الإنتاج وكمياته ونوعيته، وتابع في ذلك الخطة الاستعمارية التي كانت من خلالها الدول المستعمِرة تجبر المزارعين في الدول المستعمَرة على إنتاج المحاصيل الموجهة للتصدير (الأرز- القطن- الكاكاو) بدل الغذاء الأساسي. وهذا كان يخلق ندرة في المحاصيل الغذائية مثل القمح والشعير، لأن المزارع الذي كان ينتج هذه المحاصيل كان يبيعها بأثمنة ضعيفة لم تكن تكفيه لتغطية مصاريفه، ناهيك عن الضرائب المرتفعة، التي كانت
"الوسيلة الاستعمارية المفضلة لإجبار الإفريقيين على زراعة محاصيل التصدير… وحيث كان يجب دفع الضرائب بعملة المستعمر، كان على الفلاحين أن يزرعوا محاصيل للبيع، أو يعملوا في المزارع الكبيرة أو في مناجم الأوربيين… ولزيادة إنتاجهم من محاصيل التصدير حتى يدفعوا الضرائب المتزايدة، كان المنتجون مجبرين على إهمال زراعة المحاصيل الغذائية"⁴.
لقد ساد هذا الوضع كل المستعمرات الإفريقية والآسيوية، التي تكبدت الويلات من تلك السياسة القاتلة. وكانت تلك السياسة ترجمة لأفكار الاقتصادي البريطاني
"جون ستيوارت ميل" الذي أثبت أن "المستعمرات لا يجب النظر إليها على أنها حضارات أو دول على الإطلاق، بل على أنها (مؤسسات زراعية) هدفها الوحيد هو إمداد (المجتمع الأكبر الذي تنتمي إليه) كانت زراعة المجتمع المستعمر، مجرد فرع من النظام الزراعي للدولة المركز"⁵.
ضحايا البنك الدولي
بعد أن تمكن البنك الدولي من التحكم في الإنتاج الزراعي لبعض الدول، أصبح الآمر الناهي في شؤونها الداخلية. وهنا يمكن إيراد بعض النماذج من الدول:
الصومال
خير نموذج على صناعة الفقر، لأن البنك الدولي من خلال الأزمة الزراعية التي أحدثها أوائل الثمانينيات، أجبر الحكومة الصومالية بالتزام برنامج تقشف صارم من أجل سداد الديون. وما دام الفقر موجودا فلن يتخلى عنه الفساد، لأن الجماعات المتنفذة في الدولة والمالكة للأراضي الزراعية خاصة المسقية منها، كانت تشجع الزراعات الموجهة للتصدير وتستورد الحبوب من الخارج. مما انعكس سلبا على المصاريف الموجهة للصحة والتعليم التي انخفضت لمستويات قياسية،
" كما أدى إفقار سكان الحضر [المدن] إلى انكماش استهلاك الأغذية، وتجمد دعم الدولة للمساحات المروية [المسقية] بدوره هبط الإنتاج في مزارع الدولة، وكان من الضروري إغلاق هذه الأخيرة أو خصخصتها تحت إشراف البنك الدولي"⁶.
وهذا يحدث الآن في المغرب وفي جل الدول الغارقة في الديون. لأن البنك الدولي ينزل بثقله ويفرض توصيات واجبة التنفيذ. وهكذا يتضح أن صناعة الفقر هواية يتقنها البنك الدولي.
رواندا
كانت الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي التي عمت البلاد سنة 1994، نتيجة “لأزمة اقتصادية عميقة الجذور، وكانت إعادة هيكلة النظام الزراعي هي التي أسرعت بإلقاء السكان إلى الفقر المدقع”⁷. وتعود جذور الحرب الأهلية إلى الاستغلال الاستعماري البلجيكي الذي خلق العداوة بين الطائفتين؛ حيث ملّك التوتسي وجعل الهوتو عبيدا يعملون في المزارع. كما كان انهيار أسعار البن سنة 1989 من أهم أسباب انهيار اقتصاد رواندا. لأن تصدير البن كان يوفر للدولة 80% من العملات الأجنبية، والظروف المتردية الناتجة عن الاستعمار جعلت الدولة تلجأ للديون التي كانت تسحب جزءا كبيرا من عائدات البن. وهذا الأمر رهن الاقتصاد الرواندي للبنك الدولي – صندوق النقد الدولي الذي كان يشترط الالتزام بسياسة الإصلاحات لمواصلة الحصول على الديون.
وتضمنت حزمة الإصلاحات التي وضعها البنك الدولي مخطط مع التغيير الاستراتيجي الذي ارتكز على إصلاح كلي للاقتصاد والانتقال للسوق الحرة. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تحرير التجارة وتخفيض سعر العملة. وكان الهدف من تخفيض سعر العملة، زيادة صادرات البن التي كانت المنقذ الرئيسي لاقتصاد الدولة المتهالك. لكن هذا الإصلاح خلف نتائج عكسية حيث انهارت العملة وارتفعت الأسعار لمستويات قياسية. بالمقابل تدهورت المداخيل والأجور، وساءت ظروف السكان الصحية، وعمت المجاعة أعدادا غفيرة من السكان. لأن صناعة الفقر فن يستهوي المؤسسات الدولية، ولولا الفقر والفقراء ما نجحت المخططات الإصلاحية.
الهند
أوصى صندوق النقد الدولي سنة 1991 بتخفيض الإنفاق على البرامج الاجتماعية وبيع المنشآت العامة لرأس المال الأجنبي، وتحرير التجارة، وتخفيض سعر العملة، وإلغاء الدعم عن المواد الغذائية والأسمدة. وخلف ذلك آثارا سلبية تجلت في ارتفاع أسعار الأسمدة الكيميائية بشكل صاروخي، وتزايد أسعار البذور والوقود، وإفلاس المزارعين الصغار، وتزايد أسعار المواد الأساسية بنسبة 50% خاصة الأرز، وإفلاس المنتجين المحليين. و “عوض القضاء على الفقر كما زعم رئيس البنك الدولي آنذاك لويس بريستون، فقد تم القضاء على الفقراء”⁸. إذ توفي الكثير من العمال والمزارعين من جراء المجاعة التي ضربت الهند سنة 1991. هكذا إذن “تتغذى إصلاحات صندوق النقد الدولي-البنك الدولي على فقر الناس، وعلى انكماش السوق الداخلية”⁹.
بنغلاديش
قبل أن يفرض صندوق النقد الدولي وصفته العلاجية، أحدث انقلابا سياسيا سنة 1975، بدأ باغتيال الرئيس مجيب الرحمان وتنصيب عصابة عسكرية مكانه. وشارك في الانقلاب المخابرات الأمنية لبنغلاديش بتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. مكن هذا الانقلاب البنك الدولي – صندوق النقد الدولي من إمساك زمام أمور البلاد.
وبحكم تركيز البلاد على الزراعة كقطاع أساسي، فقد تم إلغاء الدعم عن الأنشطة الزراعية. وخلف هذا أعدادا كبيرة من المزارعين المفلسين الذين لجؤوا للقروض لمواصلة أشغالهم. وكإجراء رئيسي لصندوق النقد الدولي، فقد ساهم تحرير التجارة وإلغاء الدعم للزراعة من تضرر فئات عريضة من الأسر الريفية التي بين عشية وضحاها وجدت نفسها تكابد الفقر والقهر، والتي كان يُضحك عليها بحفنات من القمح الأمريكي الرخيص، مما أدى إلى حدوث مجاعات قضت على ملايين المواطنين المعدمين الذين كانوا ضحايا أبرياء لسياسة القتل الاقتصادي والإبادة الباردة.
لقد كانت هذه الآثار المدمرة نتيجة مباشرة لتمكّن
" أقلية متميزة… من تجميع مقادير هائلة من الثروة على حساب الأغلبية العظمى من السكان، ويتغذى هذا النظام المالي الدولي الجديد على الفقر الإنساني… وفضلا عن هذا، فإن هذه الإصلاحات… تؤدي إلى عولمة الفقر، وهي عملية تقوض العيش البشري وتدمر المجتمع المدني في الجنوب والشرق والشمال"¹⁰.
المغرب
عاش المغرب أيضا هذه الفترات العصيبة أثناء فترة التقويم أو التكييف الهيكلي خلال ثمانينيات القرن الماضي. حيث اندلعت انتفاضات في عدة مدن مغربية في يناير 1984 وكانت تعبيرا عن الاستياء والرفض لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في البلاد. إذ إن القروض التي كان قد أخذها المغرب خلال الستينيات والسبعينيات لم تستطع إخراج البلاد من الوضع المتردي بسبب مخلفات الاستعمار، وبسبب الإنفاق العسكري على قضية الصحراء وضعف الصادرات. وعلى إثرها لم يستطع المغرب تجاوز العجز التجاري المتراكم، فلجأ للاقتراض من جديد. وبفعل الديون المتراكمة وضع صندوق النقد الدولي شروطه سنة 1983 منها: تخفيض مناصب الوظيفة العمومية، رفع الدعم عن صندوق المقاصة، تخفيض قيمة العملة، مما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي.
كما أدى ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية لتأزيم الوضع الاجتماعي. وأدت هذه التدابير لارتفاع نسب البطالة والفقر، وكان قد انتفض الشعب المغربي قبل ذلك سنة 1981 في مدينة الدار البيضاء لكن تعرض للقمع الشرس وسقط عدة قتلى من جراء العنف الوحشي، وأطلق عليهم آنذاك إدريس البصري شهداء الكوميرا استهزاء وتحقيرا. لهذا
"يؤدي برنامج التكييف الهيكلي إلى نوع من الإبادة الاقتصادية ويجري عبر التلاعب الواعي والعمدي بقوى السوق. وأثرها الاجتماعي مدمر إذا ما قورنت بالإبادة في مختلف فترات التاريخ الاستعماري… وهذا الشكل الجديد من أشكال السيطرة الاقتصادية والسياسية يجعل الشعوب والحكومات تخضع من خلال الفعل الحيادي لقوى السوق. فقد عهد الدائنون الدوليون والشركات متعددة الجنسيات للبيروقراطية الدولية القائمة في واشنطن بتنفيذ مخطط اقتصادي عالمي يؤثر على معيشة أكثر من 80% من سكان العالم"¹¹.
والعلاقة بين البيروقراطية الدولية والبيروقراطية المحلية تقودنا للحديث عن الفساد.
الفساد والفقر
يعتبر الفساد أكبر حليف وصديق للأثرياء والمؤسسات الدولية، لكن يبقى أكبر عدو للفقراء. فقد عملت تلك المؤسسات الدولية طيلة عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين على محاربة الشرفاء من رؤساء الدول الذين كانوا يميلون لكفة شعوبهم. لهذا كان صندوق النقد والبنك الدوليين يعملان كل ما في وسعهما لعرقلة الحكومات الديمقراطية، والنماذج على ذلك كثيرة:
غواتيمالا
تم انتخاب جاكوبو أربينز سنة 1951 بطريقة ديمقراطية ووعد الفقراء بإصلاح زراعي يمكنهم من تحسين ظروفهم. وهذا الإصلاح جعله يقف في وجه الشركات الأمريكية وعلى رأسها شركة الفاكهة المتحدة التي كانت تملكها عائلة بوش آنذاك. لكن هذه الشركة ومثيلاتها حاربت أربينز لأنه منعها من جني أرباح طائلة. ولكي تزيح تلك الشركات الرئيس الديمقراطي في نظر الشعب، والديكتاتوري في نظرها، شجعت انقلابا عسكريا انتهى بإزاحة أربينز و تعيين الكولونيل كارلوس كاستيلو أرماس رئيسا للبلاد سنة 1954، وعادت غواتيمالا إلى حضن الفساد والفقر.
الشيلي
انتخب الشعب سلفادور أليندي رئيسا ديمقراطيا للبلاد سنة 1970 الذي كان يسعى لتقوية اقتصاد الشيلي وتحسين الأوضاع الاجتماعية ودعم الفئات الفقيرة بشكل خاص. وتجلت أهم التدابير في رفع الأجور وتأميم شركات معدنية وأخرى تنتج المواد الغذائية. لكن الشركات الأمريكية لم يرقها هذا الأمر، فقام صندوق النقد الدولي بإيقاف منح الديون للرئيس أليندي. وعاشت البلاد على إثر ذلك ظروفا صعبة، فتدخلت وكالة المخابرات المركزية وبدأت المظاهرات والإضرابات حتى انتهت بانقلاب عسكري سنة 1973. فتم تنصيب أوغوستو بينوشي رئيسا للبلاد بينما تم اغتيال أليندي. وبمجرد وصول بينوشي للسلطة أعادت الولايات المتحدة الأمريكية الشيلي إلى فئة المرضيين عنهم. لكن الشعب الشيلي تجرع مقابل ذلك الفساد والفقر.
ليبيريا
كانت ليبيريا منطلقا أساسيا لتصدير العبيد إلى القارة الأمريكية خلال القرنين 17 و18 بحكم تواجدها على الساحل الغربي الإفريقي. لكن مجموعة من العبيد تمكنت من العودة من الولايات المتحدة الأمريكية وتأسيس حكومة مستقلة في ليبيريا سنة 1847م. وبقيت تلك الفئة تتوارث الحكم وتمنح الامتيازات لأنصارها وحلفائها، لكن بالمقابل كانت فئات كثيرة من الشعب الليبيري تعاني من القهر والفقر. وقد وفر هذا الوضع المشحون الجو الملائم للانقلاب الذي قاده الرقيب “صمويل دو” ضد الرئيس ويليام تولبرت سنة 1980 الذي كان آخر عنقود في سلالة النظام الذي تأسس سنة 1847.
ورغم اغتيال رئيس البلاد وارتكاب جرائم وحشية في حق أعضاء كثر من الحكومة، ورغم ممارسته النهب والفساد، تلقى “الرقيب صمويل دو من الولايات المتحدة ما يربو على 500 مليون دولار أثناء العقد الذي تولى فيه السلطات بليبيريا، وبدوره، فقد أعطى الولايات المتحدة الكثير حيث ذكر أحد كبار صناع السياسة الأمريكية أن الولايات المتحدة تلقت دعما هائلا منه في القضايا الدولية [خلال فترة الحرب الباردة] حيث لم يتردد أبدا في مساندتها ضد إيران وليبيا مثلا، ووفر الحماية لمصالحها على الوجه الأكمل.”¹²
أساليب الحكم الفاسد
إذن، هذه صور من التحالف بين المؤسسات الدولية الكبرى ورؤساء مفسدين يعملون جاهدين لاضطهاد شعوبهم تلبية لرغبة أسيادهم. وهؤلاء المفسدون عندما يغوصون في الحكم الظالم والفاسد يتبعون في ذلك عدة قواعد منها:
"* أولا: أن السياسة هي فن الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، ولا علاقة لها برفاه الشعب وخيره.
* ثانيا: أن الاعتماد على عدد قليل من الناس في الوصول إلى السلطة والحفاظ على المناصب الفضلى أكيدة للبقاء السياسي، وهذا يعني ان الطغاة المستبدين الذين يعتمدون على عدد قليل من المحاسيب لديهم فرصة هائلة للبقاء في منصبهم لعقود حتى يموتوا أثناء نومهم بأكثر من الحكام الديمقراطيين.
* ثالثا: حينما تدرك مجموعة المحاسيب الصغيرة أن ثمة الكثيرين ينتظرون في الظل ليحلوا محلهم في عملية نهب الأموال العامة، تمنح القيادات العليا نفسها حرية تصرف كبيرة في كيفية إنفاق العائدات وفرض الضرائب ومقدار ما تجبيه من تلك الضرائب. و[يؤدي] هذا الباب بدوره إلى هوس السرقة والإمساك بالسلطة من قبل كثير من القادة، مع ندرة البرامج الموجهة للمصلحة العامة، كما يعني إطالة مدة البقاء في السلطة."¹³.
هكذا إذن يغتني الفاسد ويزداد ثراء ويوفر الجو الملائم لاستمرار الفساد. ويحيط نفسه بنخبة تعينه على فساده وإفساده. و”تعمل في بيئة من المؤسسات الضعيفة وقدر محدود من المنافسة السياسية، وتوسع في الفرص الاقتصادية وعلى إثر ذلك يصبح المجال مفتوحا للفساد والإفلات من العقاب. في هذه الحالة يمسك المسؤولون الحكوميون – الشخصيات السياسية القوية وأقاربهم وإخوانهم- بكل الأوراق”¹⁴.
والفساد الذي يخدم الفاسد والمستبد يخدم كذلك المؤسسات المالية الكبرى التي تسعى لاستدامة مسلسل الاقتراض. لهذا “من خمسينيات القرن العشرين فصاعدا، كان أحد الأهداف الرئيسية للبنك العالمي بناء مؤسسات تأخذ غالبا وكالات شبه حكومية داخل البلدان الزبونة للبنك. تم تأسيس هذه الوكالات عمدا ككيانات مستقلة نسبيا عن حكوماتها وخارج سيطرة المؤسسات السياسية المحلية، بما في ذلك البرلمانات الوطنية”¹⁵.
السياسة والفقر
واجهت إدارة نيكسون صعوبات اقتصادية كبيرة تجلت في ارتفاع قيمة الواردات. وسبب هذا الارتفاع يعود إلى أن الشركات الأمريكية استثمرت مليارات الدولارات خارج الولايات المتحدة الأمريكية في أوربا الغربية وأمريكا اللاتينية. وشكل استيراد الولايات المتحدة الأمريكية لهذه السلع عجزًا في الميزان التجاري. مما حتم على نيكسون إيجاد حل لهذه المشكلة، فقام “بتعيين لجنة مشكلة من مديري الشركات ومحاميهم لإيجاد إجابة. هذه اللجنة المختصة بالتجارة الدولية وسياسة الاستثمار، والمعروفة باسم “لجنة ويليامز”، استنتجت أنه لا يوجد سوى نوعين من التجارة يمكنها جني المبالغ الضخمة من العملات اللازمة لموازنة مدفوعات الولايات المتحدة الأمريكية:. منتجات التكنولوجيا المتقدمة والسلع الزراعية”¹⁶.
كانت صناعة الأسلحة أحد أفرع التكنولوجيا المتقدمة، التي حققت أرباحا طائلة. أما الاستراتيجية المتعلقة بالسلع الزراعية فقد ركزت على الرفع من إنتاج القمح في البداية وتخفيض قيمة الدولار بنسبة 11 % لتمكين الدول النامية من الاستيراد. كما تم تقديم القروض لبعض الدول من أجل استيراد القمح، لكن في الخطوة الثانية تم تخفيض إنتاج القمح فارتفعت الأسعار. وفي خطوة ثالثة تم اعتماد منهجية “السوق الحرة” حيث تم فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الأمريكية ورفعت القيود عن إنتاج القمح، فارتفعت كمية صادرات القمح ما بين 1970-1974 بنحو 90 % وزادت قيمتها حوالي 400 %. وهكذا تمكنت الإدارة الأمريكية من جني أرباح طائلة خففت قليلا من وطأة العجز التجاري. ولكي يبقى الطلب الخارجي مرتفعا كانت أمريكا – عبر صندوق النقد الدولي – تعرقل البرامج الزراعية المستقلة، لأنها كانت تمنع البنك من تقديم قروض للدول التي تشكل منتجاتها منافسة للمنتوجات الأمريكية وكان على رأسها السكر والحوامض والقمح طبعا
"إن الإجابة على سؤال: لماذا لا تستطيع الأمم إطعام نفسها؟ لا بد أن يبدأ بفهم كيف أن الاستعمار قد عمل إيجابيا على الحيلولة دون حدوث هذا بعينه، فالاستعمار:
* أجبر الفلاحين على إحلال المحاصيل النقدية محل المحاصيل الغذائية، وعندها كانت المحاصيل النقدية تنتزع بأسعار بالغة الانخفاض.
* استولى على أفضل الأراضي الزراعية لمزارع محاصيل التصدير، ثم أجبر أقوى العمال على ترك حقول قريتهم للعمل كعبيد أو بأجور ضئيلة جدا في المزارع.
* شجع الاعتماد على الغذاء المستورد"¹⁷.
وكما رأينا في الفقرات السابقة فإن البنك الدولي تابع سياسة الاستغلال الاستعماري التي مورست في حق الدول المستعمرة وحرمتها الاستفادة من خيراتها. وسياسة التواطؤ والتحالف الاستعماري الأحادي الفائدة هي التي تتعامل بها المؤسسات المالية الكبرى.” لأن سبب استمرارية هذه التركيبة ليس عدم فهم البلدان المتخلفة لطبيعة الفخ الذي تقع فيه، بل إنها تستمر كما رأينا لأن زراعة التصدير تخدم مصالح مجموعات النخبة… ومصالح الشركات الزراعية المتعددة الجنسية ووكالات الإقراض الدولية مثل البنك الدولي”¹⁸.
الأبناك والفقر
شكل الذهب لقرون طويلة المال الأساس الذي كانت تتعامل به الشعوب. لكن خلال القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى تم اعتماد العملة الورقية كبديل للذهب وكأساس للتعامل الاقتصادي. وهنا يطرح سؤال، ما الفرق بين المال والعملة؟
في سلسلة على اليوتيوب تحت عنوان “الأسرار الخفية للمال” تحدث Micheal Maloney عن الفرق بين المال والعملة:
المال: هو ما يحفظ قيمته ويحافظ على القدرة الشرائية على مدى فترات طويلة من الزمن.
العملة: العملة وحدة حساب تحمل أرقام وهي أيضا وسيلة للتبادل.
إذن ما دام الذهب مالا وقيمته لا تتغير عبر الزمن فإن الحكومات رفضت اعتماده كعملة لأنه يقيد سیاستها ولا تطبع منه ما تريد. بينما العملة الورقية لا تحمل قيمتها وتتغير بسرعة عبر الزمن، خاصة عندما تطبع منها كميات ضخمة. وما دامت الحكومة قادرة على طبع كميات ضخمة من العملة فإنها تعمل على نقل الثروة من جيب المستهلك إلى مخزون البنك.
وهذا التوفير الكبير للعملة يخلق “أزمة التضخم” لأن العملات المطبوعة تفقد قيمتها وترتفع الأسعار.
لهذا تسارعت نسب التضخم في العالم برمته، خاصة خلال أزمة كورونا وبعدها. لأن الحكومات طبعت مليارات الدولارات، فأصبح الاستهلاك أكبر من الإنتاج. ولكي يستمر الاقتصاد كان ضروريا استمرار التيسير الكمي والرفع من نسبة الفائدة على القروض. وهذا يعمق الاختلالات داخل المجتمعات فترتفع نسب الفقر ويتم تسريح العمال وتزداد نسب البطالة.
لهذا، فالنظام البنكي العالمي الحالي لا يمكن أن يستمر إلا من خلال استمرار القروض واستمرار طبع العملات الوهمية. لذلك، كل الخبراء الاقتصادين يحذرون من أزمة مالية كبرى قادمة ستأتي على الأخضر واليابس، وستحصد في طريقها الكثير من الفقراء والكثير من ضحايا سياسة صناعة الفقر.
خاتمة
لم تعد إذن صناعة الفقر خفية على أحد، بل كانت ولا زالت أبرز أساليب الاستعمار الجديد. ونحن على أعقاب نهاية سنة 2025، بات العالم يشهد عدة احتجاجات في بعض دول العالم مثل النيبال، مدغشقر والمغرب. يقودها شباب أطلقوا على أنفسهم جيل Z، تعكس مطالبهم حجم الخضوع للمؤسسات المالية الدولية، وتسعى للتخلص من الفقر و البطالة التي خلفتها سياسة مصاصي دماء الشعوب. و رغم أن العالم يمر من فترة دولية انتقالية التي ستخلق منعطفا لصالح دول الشرق. يجب على شعوب العالم المُفَقَّر أن تدرك جيدا أن سواء بقي الأمر بيد أمريكا وفروعها أو بيد الصين وحلفائها فلن يتغير الأمر، ولن تنخفض نسب الفقر.
فالدول النامية بمواردها وخيراتها قادرة على خلق نموذج اقتصادي قوي مستقل عن الهيمنة الغربية. لكن بوجود نخبة فاسدة تخدم أجندة الطفيليات النيو ليبيرالية وتمول اقتصادها ورفاهية شعوبها فلن تتغير أحوال الشعوب. والحل هنا يبقى بيد الشعوب التي يجب أن تعي دورها الأساسي في التغيير نحو الأفضل. والوعي يأتي بالمعرفة واتباع المسار غير المرسوم من قبل الأجندة العالمية. فكل ما يدعو له البنك الدولي ويدافع عنه، فهو يخدم الاقتصاد الرأسمالي والأثرياء، ولن يكون أبدا في مصلحة الشعوب.
وإذا كان البنك العالمي يتخذ من صناعة الفقر هواية وخدمة يدافع عنها بالحروب، فالشعوب يجب أن تصنع التغيير الذي يتماشى مع حقها في الاستفادة من خيراتها والعيش الكريم الذي يضمن كرامتها.
_______________________________________________
قائمة المراجع:
¹: طغيان البنك العالمي، الأجندة الخفية لإجماع واشنطن، إريك توسان، أطاك المغرب، ص 37.
²: عولمة الفقر، ميشيل تشوسودوفيسكي، ترجمة محمد مستجير مصطفى، مكتبة الأسرة 2012، ص 26.
³: عولمة الفقر، ميشيل تشوسودوفيسكي، مرجع سابق، ص 12.
⁴: صناعة الجوع، فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز، ترجمة أحمد حسان، عالم المعرفة، ص 94.
⁵: صناعة الجوع، فرانسيس مورلابيه وجوزيف كولينز، مرجع سابق، ص 92-93.
⁶: عولمة الفقر، مرجع سابق، ص 102.
⁷: عولمة الفقر، مرجع سابق، ص 110.
⁸: عولمة الفقر، مرجع سابق، ص 133.
⁹: عولمة الفقر، مرجع سابق، ص 135.
¹⁰: عولمة الفقر، مرجع سابق، ص 28.
¹¹: عولمة الفقر، نفس المرجع، ص 31.
¹²: الفساد سبيلا للاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها، دليل الاستبداد والمستبدين، بروس بيونو دو مسقيتا وألستير سميث، ترجمة فاطمة نصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 172.
¹³: الفساد سبيلا للاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها، مرجع سابق، ص 17.
¹⁴: الفساد سبيلا للاستيلاء على السلطة والحفاظ عليها، مرجع سابق، ص 273.
¹⁵: طغيان البنك العالمي، مرجع سابق، ص 82.
¹⁶: صناعة الجوع، مرجع سابق، ص 204.
¹⁷: صناعة الجوع، نفس المرجع، ص 101.
¹⁸: صناعة الجوع، نفس المرجع، ص 188.



